الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على خير المربين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ـ الخطب الشرعية : لماذا يصوم المسلمون يوم عاشوراء ؟
* ـ الحمد لله الملك القدوس السلام، مجري الليالي والأيام، ومجدد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل شهر المحرم فاتحة شهور العام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام .
* ـ أما بعد : فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، ورمز قوتكم، وسبب نصركم، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة .
* ـ أيها المسلمونَ : شهر الله المحرم فاتحة شهور العام، وهوَ من أعظم شهور الله جل وعلا، عظيم المكانة، قديم الحرمة، رأس العام، من أشهر الله الحرم، فيه نصَرَ الله موسى وقومه على فرعون وملئه، ومن فضائله أن الأعمال الصالحة فيه لها فضل عظيم، لا سيما الصيام، فقد روى الإمام مسلمٌ في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) .
وأفضل أيام هذا الشهر ـ يا عباد الله ـ يوم عاشوراء، في الصحيحين وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟ فَقَالُوا : هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام : فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ)، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً قَالَ : فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ : (لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ . فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، قَالَ : وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ ؟ قَالَ : لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ ؟ قَالَ : ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام . وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ؟ قَالَ : ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ . فَقَالَ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ . وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ ؟ فَقَالَ : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ . وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ؟ فَقَالَ : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ) .
الله أكبر، يا له من فضل عظيم لا يفوِّته إلا محروم .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ رواه البخاري .
وقد عزم على أن يصوم يوما قبله مخالفة لأهل الكتاب : فعنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام) رواه مسلم .
وَعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ : (مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ)، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ) رواه الشيخان .
لذا فيستحب للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداء بأنبياء الله ويأمروا صبيانهم بصيامهِ، طلباً لثواب الله، وأن يصوموا يوما قبله أو يوما بعده مخالفة لليهود، وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى، فيا له من عمل قليل وأجر كبير وكثير من المنعم المتفضل سبحانه، إن ذلك ـ أيها الأحبة في الله ـ لمن شكر الله عز وجل على نعمه، واستفتاح هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يرجى فيها ثواب الله سبحانه وتعالى، والكيس الواعي والحصيف اللبيب يدرك أنه كسب عظيم ينبغي أن يُتَوِج به صحائف أعماله، فيا لفوز المشمرين، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه .
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الخير والحكمة .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، من كل الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان توابا .
* ـ الخطبةُ الثانيةُ :الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد . .
أيها المسلمونَ : أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل .
يقول ربنا تبارك وتعالى : (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .. ) (التوبة 36) .
والأشهرُ الأربعة الحرم ثلاثة منها متوالية وهي : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان، وإن من تيسير الله تعالى أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنياً على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام، وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رؤي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهى الشهر الماضي، وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس وأول الشهر هو أول الوقت .
ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث جمع الناس سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم : يبدأ من مولد النبي وقال بعضهم : يبدأ من بعثته وقال بعضهم : يبدأ من هجرته وقال بعضهم : يبدأ من وفاته، ولكنه رجّح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي السنة التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين، وفيها تكوين أول بلد إسلامي يسيطر عليه المسلمون، فاتفق فيه ابتداء الزمن والمكان .
ثم أن الصحابة الذين جمعهم عمر تشاوروا من أي شهر يبدؤن السنة فقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجراً إلى المدينة وقال بعضهم من رمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجتهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم أنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم .
عباد الله : إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر وإن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجوداً وكياناً مستقلين مستمدين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها وفي كل ما ينبغي أن تميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليدا أعمى لا يجر إليها نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً، وإنما يُظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولَها، فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس، والشهري يبدأ من الهلال، والسنوي يبدأ من الهجرة .. هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (وآية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) (يس : 37 ـ 40) .
* ـ هذا، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من أفضل الطاعات وأشرف القربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات صاحب المعجزات الباهرات والآيات البينات، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولا كريماً : (إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) .
اللَّهُمَّ صَلِّ وسلم عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .
اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين ا